كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْقَذْفَ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ إنَّمَا هُوَ الْقَذْفُ بِصَرِيحِ الزِّنَا، وَهُوَ الَّذِي إذَا جَاءَ بِالشُّهُودِ عَلَيْهِ حُدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، وَلَوْلَا مَا فِي فَحْوَى اللَّفْظِ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ ذِكْرُ الرَّمْيِ مَخْصُوصًا بِالزِّنَا دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَقَعُ الرَّمْيُ بِهَا؛ إذْ قَدْ يَرْمِيهَا بِسَرِقَةٍ وَشُرْبِ خَمْرٍ وَكُفْرٍ وَسَائِرِ الْأَفْعَالِ الْمَحْظُورَةِ، وَلَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ حِينَئِذٍ مُكْتَفِيًا بِنَفْسِهِ فِي إيجَابِ حُكْمِهِ بَلْ كَانَ يَكُونُ مُجْمَلًا مَوْقُوفَ الْحُكْمِ عَلَى الْبَيَانِ، إلَّا أَنَّهُ كَيْفَمَا تَصَرَّفَتْ الْحَالُ فَقَدْ حَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ الرَّمْيَ بِالزِّنَا مُرَادٌ، وَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} بِالزِّنَا؛ إذْ حُصُولُ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الزِّنَا مُرَادٌ بِمَنْزِلَةِ ذِكْرِهِ فِي اللَّفْظِ، فَوَجَبَ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ حَدِّ الْقَذْفِ مَقْصُورًا عَلَى الْقَذْفِ بِالزِّنَا دُونَ غَيْرِهِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْفُقَهَاءُ فِي التَّعْرِيضِ بِالزِّنَا، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ: لَا حَدَّ فِي التَّعْرِيضِ بِالْقَذْفِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ فِيهِ الْحَدُّ.
وَرَوَى الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ عُمَرُ يَضْرِبُ الْحَدَّ فِي التَّعْرِيضِ.
وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الرِّجَالِ عَنْ أُمِّهِ عَمْرَةَ: أَنَّ رَجُلَيْنِ اسْتَبَّا فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: وَاَللَّهِ مَا أَبِي بِزَانٍ وَلَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ فَاسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ عُمَرُ النَّاسَ، فَقَالَ قَائِلٌ مَدَحَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَقَالَ آخَرُونَ: قَدْ كَانَ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ مَدْحٌ غَيْرُ هَذَا، نَرَى أَنْ يُجْلَدَ الْحَدَّ، فَجَلَدَهُ عُمَرُ الْحَدَّ ثَمَانِينَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ عُمَرَ لَمْ يُشَاوِرْ فِي ذَلِكَ إلَّا الصَّحَابَةَ الَّذِينَ إذَا خَالَفُوا قُبِلَ خِلَافُهُمْ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ حُصُولُ الْخِلَافِ بَيْنَ السَّلَفِ.
ثُمَّ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} هُوَ الرَّمْيُ بِالزِّنَا لَمْ يَجُزْ لَنَا إيجَابُ الْحَدِّ عَلَى غَيْرِهِ؛ إذْ لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِ الْحُدُودِ مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ وَإِنَّمَا طَرِيقُهَا الِاتِّفَاقُ أَوْ التَّوْقِيفُ وَذَلِكَ مَعْدُومٌ فِي التَّعْرِيضِ، وَفِي مُشَاوَرَةِ عُمَرَ الصَّحَابَةَ فِي حُكْمِ التَّعْرِيضِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فِيهِ تَوْقِيفٌ، وَأَنَّهُ قَالَهُ اجْتِهَادًا وَرَأْيًا.
وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّعْرِيضَ بِمَنْزِلَةِ الْكِنَايَةِ الْمُحْتَمِلَةِ لِلْمَعَانِي، وَغَيْرُ جَائِزٍ إيجَابُ الْحَدِّ بِالِاحْتِمَالِ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْقَائِلَ بَرِيءُ الظَّهْرِ مِنْ الْجَلْدِ فَلَا نَجْلِدُهُ بِالشَّكِّ وَالْمُحْتَمَلُ مَشْكُوكٌ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ يَزِيدَ بْنَ رُكَانَةَ لَمَّا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ اسْتَحْلَفَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاَللَّهِ مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً فَلَمْ يُلْزِمْهُ الثَّلَاثَ بِالِاحْتِمَالِ؟ وَلِذَلِكَ قَالَ الْفُقَهَاءُ فِي كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ إنَّهَا لَا تُجْعَلُ طَلَاقًا إلَّا بِدَلَالَةٍ.
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ»، وَأَقَلُّ أَحْوَالِ التَّعْرِيضِ حِينَ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْقَذْفِ وَغَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ شُبْهَةً فِي سُقُوطِهِ.
وَأَيْضًا قَدْ فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ التَّعْرِيضِ بِالنِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ وَبَيْنَ التَّصْرِيحِ فَقَالَ: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} يَعْنِي نِكَاحًا، فَجَعَلَ التَّعْرِيضَ بِمَنْزِلَةِ الْإِضْمَارِ فِي النَّفْسِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمَ التَّعْرِيضِ بِالْقَذْفِ، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ التَّعْرِيضَ لَمَّا كَانَ فِيهِ احْتِمَالٌ كَانَ فِي حُكْمِ الضَّمِيرِ لِوُجُودِ الِاحْتِمَالِ فِيهِ وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَدِّ الْعَبْدِ فِي الْقَذْفِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: إذَا قَذَفَ الْعَبْدُ حُرًّا فَعَلَيْهِ أَرْبَعُونَ جَلْدَةً.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يُجْلَدُ ثَمَانِينَ.
وَرَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: يُجْلَدُ الْعَبْدُ فِي الْفِرْيَةِ أَرْبَعِينَ.
وَرَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ ابْنِ ذَكْوَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: أَدْرَكْت أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْخُلَفَاءِ فَلَمْ أَرَهُمْ يَضْرِبُونَ الْمَمْلُوكَ فِي الْقَذْفِ إلَّا أَرْبَعِينَ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَالِمٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٍ.
وَرَوَى لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ فِي عَبْدٍ قَذَفَ حُرًّا: إنَّهُ يُجْلَدُ ثَمَانِينَ.
وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ جَلَدَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَبْدًا فِي الْفِرْيَةِ ثَمَانِينَ.
وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ حَدَّ الْعَبْدِ فِي الزِّنَا خَمْسُونَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَدِّ الْحُرِّ لِأَجْلِ الرِّقِّ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ} فَنَصَّ عَلَى حَدِّ الْأَمَةِ وَأَنَّهُ نِصْفُ حَدِّ الْحُرَّةِ، وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ بِمَنْزِلَتِهَا لِوُجُودِ الرِّقِّ فِيهِ، كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَدُّهُ فِي الْقَذْفِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَدِّ الْحُرِّ لِوُجُودِ الرِّقِّ فِيهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي قَاذِفِ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ: لَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُحَدُّ قَاذِفُ الصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ يُجَامِعُ إذَا لَمْ يَبْلُغْ، وَيُحَدُّ قَاذِفُ الصَّبِيَّةِ إذَا كَانَ مِثْلُهَا تُجَامَعُ وَإِنْ لَمْ تُحْصَنْ، وَيُحَدُّ قَاذِفُ الْمَجْنُونِ.
وَقَالَ اللَّيْثُ يُحَدُّ قَاذِفُ الْمَجْنُونِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْمَجْنُونُ وَالصَّبِيُّ وَالصَّبِيَّةُ لَا يَقَعُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زِنًا؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ مِنْهُمْ لَا يَكُونُ زِنًا؛ إذْ كَانَ الزِّنَا فِعْلًا مَذْمُومًا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْعِقَابَ وَهَؤُلَاءِ لَا يَسْتَحِقُّونَ الْعِقَابَ عَلَى أَفْعَالِهِمْ، فَقَاذِفُهُمْ بِمَنْزِلَةِ قَاذِفِ الْمَجْنُونِ لِوُقُوعِ الْعِلْمِ بِكَذِبِ الْقَاذِفِ؛ وَلِأَنَّهُمْ لَا يَلْحَقُهُمْ شَيْنٌ بِذَلِكَ الْفِعْلِ لَوْ وَقَعَ مِنْهُمْ، فَكَذَلِكَ لَا يَشِينُهُمْ قَذْفُ الْقَاذِفِ لَهُمْ بِذَلِكَ.
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالْحَدِّ إلَى الْمَقْذُوفِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُومَ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكَالَةَ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فِيهِ؟ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَجِبْ الْمُطَالَبَةُ لِأَحَدٍ وَقْتَ الْقَذْفِ، فَلَمْ يَجِبْ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ إذَا وَجَبَ فَإِنَّمَا يَجِبُ بِالْقَذْفِ لَا غَيْرَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلِلرَّجُلِ أَنْ يَأْخُذَ بِحَدِّ أَبِيهِ إذَا قُذِفَ وَهُوَ مَيِّتٌ فَقَدْ جَازَ أَنْ يُطَالِبَ عَنْ الْغَيْرِ بِحَدِّ الْقَذْفِ.
قِيلَ لَهُ: إنَّمَا يُطَالِبُ عَنْ نَفْسِهِ لِمَا حَصَلَ بِهِ مِنْ الْقَدْحِ فِي نَسَبِهِ وَلَا يُطَالِبُ عَنْ الْأَبِ.
وَأَيْضًا لَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قَاذِفَ الصَّبِيِّ لَا يُحَدُّ كَانَ كَذَلِكَ قَاذِفُ الصَّبِيَّةِ؛ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ التَّكْلِيفِ وَلَا يَصِحُّ وُقُوعُ الزِّنَا مِنْهُمَا، فَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ قَذَفَ جَمَاعَةً، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ: إذَا قَذَفَهُمْ بِقَوْلٍ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: إذَا قَالَ لَهُمْ يَا زُنَاةُ فَعَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ، وَإِنْ قَالَ لِكُلِّ إنْسَانٍ يَا زَانِي فَلِكُلِّ إنْسَانٍ حَدٌّ وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ.
وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: إذَا قَذَفَ جَمَاعَةً فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ، وَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ زَنَيْت بِفُلَانَةَ فَعَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ عُمَرَ ضَرَبَ أَبَا بَكْرَةَ وَأَصْحَابَهُ حَدًّا وَاحِدًا وَلَمْ يَحُدَّهُمْ لِلْمَرْأَةِ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إذَا قَالَ يَا زَانِيَ ابْنَ زَانٍ فَعَلَيْهِ حَدَّانِ، وَإِنْ قَالَ لِجَمَاعَةٍ إنَّكُمْ زُنَاةٌ فَحَدٌّ وَاحِدٌ.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: إذَا قَالَ مَنْ كَانَ دَاخِلَ هَذِهِ الدَّارِ فَهُوَ زَانٍ ضُرِبَ لِمَنْ كَانَ دَاخِلَهَا إذَا عُرِفُوا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِيمَا حَكَاهُ الْمُزَنِيّ عَنْهُ: إذَا قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ، وَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ يَا ابْنَ الزَّانِيَيْنِ فَعَلَيْهِ حَدَّانِ وَقَالَ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: إذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِرَجُلٍ لَاعَنَ وَلَمْ يُحَدَّ لِلرَّجُلِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُرَادَهُ جَلْدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَاذِفِينَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، فَكَانَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَمَنْ رَمَى مُحْصَنًا فَعَلَيْهِ ثَمَانُونَ جَلْدَةً، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ قَاذِفَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُحْصَنَاتِ لَا يُجْلَدُ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَانِينَ، وَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى قَاذِفِ جَمَاعَةِ الْمُحْصَنَاتِ أَكْثَرَ مِنْ حَدٍّ وَاحِدٍ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْآيَةِ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ قَالَ: أَنْبَأَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ قَالَ: حَدَّثَنِي عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِك فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إذَا رَأَى أَحَدُنَا رَجُلًا عَلَى امْرَأَتِهِ يَلْتَمِسُ الْبَيِّنَةَ؟ فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِك فَقَالَ هِلَالٌ: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ إنِّي لَصَادِقٌ وَلِيُنْزِلَن اللَّهُ فِي أَمْرِي مَا يُبْرِئُ ظَهْرِي مِنْ الْحَدِّ فَنَزَلَتْ: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنْ هِشَامٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ شَرِيكَ بْنَ سَحْمَاءَ بِامْرَأَتِهِ، فَرَفَعَ ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «ائْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِك». قَالَ ذَلِكَ مِرَارًا، فَنَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ ثَبَتَ بِهَذَا الْخَبَرِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الْآيَةَ، كَانَ حُكْمًا عَامًّا فِي الزَّوْجَاتِ كَهُوَ فِي الْأَجْنَبِيَّاتِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ: «بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِك» وَلِأَنَّ عُمُومَ الْآيَةِ قَدْ اقْتَضَى ذَلِكَ، ثُمَّ لَمْ يُوجِبْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هِلَالٍ إلَّا حَدًّا مَعَ قَذْفِهِ لِامْرَأَتِهِ وَلِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ، إلَى أَنْ نَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ فَأُقِيمَ اللِّعَانُ فِي الزَّوْجَاتِ مَقَامَ الْحَدِّ فِي الْأَجْنَبِيَّاتِ، وَلَمْ يُنْسَخْ مُوجِبُ الْخَبَرِ مِنْ وُجُوبِ الِاقْتِصَارِ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ إذَا قَذَفَ جَمَاعَةً، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى قَاذِفِ الْجَمَاعَةِ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ سَائِرَ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ إذَا وُجِدَ مِنْهُ مِرَارًا لَا يُوجِبُ إلَّا حَدًّا وَاحِدًا، كَمَنْ زَنَى مِرَارًا أَوْ سَرَقَ مِرَارًا أَوْ شَرِبَ مِرَارًا لَمْ يُحَدَّ إلَّا حَدًّا وَاحِدًا، فَكَانَ اجْتِمَاعُ هَذِهِ الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مُوجِبًا لِسُقُوطِ بَعْضِهَا وَالِاقْتِصَارِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهَا حَدٌّ، وَإِنْ شِئْت قُلْت إنَّهُ مِمَّا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ.
فَإِنْ قِيلَ حَدُّ الْقَذْفِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ، فَإِذَا قَذَفَ جَمَاعَةً وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ اسْتِيفَاءُ حَدِّهِ عَلَى حِيَالِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ إلَّا بِمُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ، قِيلَ لَهُ: الْحَدُّ هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى كَسَائِرِ الْحُدُودِ فِي الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَإِنَّمَا الْمُطَالَبَةُ بِهِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ لَا الْحَدُّ نَفْسُهُ، وَلَيْسَ كَوْنُهُ مَوْقُوفًا عَلَى مُطَالَبَةِ الْآدَمِيِّ مِمَّا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْحَدُّ نَفْسُهُ حَقًّا لِآدَمِيٍّ، أَلَا تَرَى أَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِمُطَالَبَةِ الْآدَمِيِّ وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ حَقًّا لِلْآدَمِيِّ؟ فَكَذَلِكَ حَدُّ الْقَذْفِ، وَلِذَلِكَ لَا يُجِيزُ أَصْحَابُنَا الْعَفْوَ عَنْهُ، وَلَا يُورَثُ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يُجْلَدُ فِي الْقَذْفِ أَرْبَعِينَ، وَلَوْ كَانَ حَقًّا لِآدَمِيٍّ لَمَا اخْتَلَفَ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ فِيهِ؛ إذْ كَانَ الْجَلْدُ مِمَّا يَتَنَصَّفُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ وَالْحُرَّ يَسْتَوِيَانِ فِيمَا يَثْبُتُ عَلَيْهِمَا مِنْ الْجِنَايَاتِ عَلَى الْآدَمِيِّينَ فَإِذَا قَتَلَ الْعَبْدُ ثَبَتَ الدَّمُ فِي عُنُقِهِ فَإِذَا كَانَ عَمْدًا قُتِلَ وَإِنْ كَانَ خَطًَا كَانَتْ الدِّيَةُ فِي رَقَبَتِهِ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ حَرٌّ وَجَبَتْ الدِّيَةُ؟ فَلَوْ كَانَ حَدُّ الْقَذْفِ حَقًّا لِآدَمِيٍّ لَمَا اخْتَلَفَ مَعَ إمْكَانِ تَنْصِيفِهِ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ وَالْحُرُّ لَا يَخْتَلِفَانِ فِي اسْتِهْلَاكِ الْأَمْوَالِ؛ إذْ مَا يَثْبُتُ عَلَى الْحُرِّ فَمِثْلُهُ يَثْبُتُ عَلَى الْعَبْدِ.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي إقَامَةِ حَدِّ الْقَذْفِ مِنْ غَيْرِ مُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُحَدُّ إلَّا بِمُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: يَحُدُّهُ الْإِمَامُ، وَإِنْ لَمْ يُطَالِبْ الْمَقْذُوفُ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَحُدُّهُ الْإِمَامُ حَتَّى يُطَالِبَ الْمَقْذُوفُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ سَمِعَهُ يَقْذِفُ فَيَحُدُّهُ إذَا كَانَ مَعَ الْإِمَامِ شُهُودٌ عُدُولٌ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْمَهْرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: سَمِعْت ابْنَ جُرَيْجٍ يُحَدِّثُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تَعَافُوا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ»، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مَا بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدٍّ لَمْ يَكُنْ يُهْمِلُهُ وَلَا يُقِيمُهُ، فَلَمَّا قَالَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ: «ائْتِنِي بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِك» وَلَمْ يُحْضِرْ شُهُودًا وَلَمْ يَحُدَّهُ حِينَ لَمْ يُطَالِبْ الْمَقْذُوفَ بِالْحَدِّ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يُقَامُ إلَّا بِمُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ الْعَسِيفِ، وَأَنَّ أَبَا الزَّانِي قَالَ: إنَّ ابْنِي زَنَى بِامْرَأَةِ هَذَا، فَلَمْ يَحُدَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَذْفِهَا وَقَالَ: «اُغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا».
وَلَمَّا كَانَ حَدُّ الْقَذْفِ وَاجِبًا لِمَا اُنْتُهِكَ مِنْ عِرْضِهِ بِقَذْفِهِ مَعَ إحْصَانِهِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْمُطَالَبَةُ بِهِ حَقًّا لَهُ دُونَ الْإِمَامِ، كَمَا أَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ لَمَّا كَانَ وَاجِبًا لِمَا اُنْتُهِكَ مِنْ حِرْزِ الْمَسْرُوقِ وَأَخْذِ مَالِهِ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِمُطَالَبَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَأَمَّا فَرْقُ مَالِكٍ بَيْنَ أَنْ يَسْمَعَهُ الْإِمَامُ أَوْ يَشْهَدَ بِهِ الشُّهُودُ فَلَا مَعْنَى لَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا إنْ كَانَ مِمَّا لِلْإِمَامِ إقَامَتُهُ مِنْ غَيْرِ مُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ فَوَاجِبٌ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ فِيهِ حُكْمُ سَمَاعِ الْإِمَامِ وَشَهَادَةِ الشُّهُودِ مِنْ غَيْرِ سَمَاعِهِ.